صعّد الاحتلال “الإسرائيلي” من استهدافه للضفة الغربية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بشكل مواز للحرب على قطاع غزة، إلّا أنّ ذروة الاستهداف بدأت تظهر في في الثلث الثاني من ديسمبر / كانون الأول الجاري، وتنفيذه عملية عسكرية شاملة لمدة ثلاثة أيام أشبه بالحرب المتواصلة على غزة، شملت مدينة جنين ومخيمها، ومدينة نابلس، ومخيم بلاطة، ومدينة طولكرم ومخيماتها، كما تخللها عمليات قصف من الطائرات، وتفتيش من بيت لآخَر، وتدمير في البنى التحتية ومنازل المواطنين.
برزت تصريحات قادة الاحتلال بالتزامن مع تركيز الجهد العسكري “الإسرائيلي” في الضفة، وفي مقدمتهم رئيس الوزاراء “بنيامين نتنياهو” بالتهديد في تحويل الضفة إلى ساحة حرب، أو التصريحات السياسية المنتقدة للسلطة الفلسطينية، والتلويح بإمكانية مواجهة الأجهزة الأمنية التابعة لها، فمع دخول الحرب على غزة شهرها الثالث دون أن يحقق الاحتلال “الإسرائيلي” الأهداف الرئيسة المعلنة للحرب، يطرح هذا التصعيد سؤالًا عما إذا كانت ممارسات الاحتلال في الضفة تهدف إلى محاولة تقديم انتصار ل”نتنياهو” وقادة الجيش لتبرير الفشل في قطاع غزة؟ أو محاولة البحث عن إنجازات يمكن أن تسوَّق للشارع “الإسرائيلي” أمام الأثمان التي يمكن أن يضطر الاحتلال لدفعها في غزة مع نهاية الحرب؟ أو أهداف أخرى يحاول من خلالها إعادة تعزيز الحكم العسكري “الإسرائيلي” على حساب إضعاف البعد المؤسسي الفلسطيني المتمثل بالسلطة الفلسطينية؟
عمليات عسكرية متتالية:
بدأت قوات الاحتلال مع ساعات فجر 12 ديسمبر/ كانون الأول، عملية عسكرية شاملة في كافة أحياء مدينة جنين ومخيمها، انطلقت بعملية اغتيال مباشرة بطائرة “إسرائيلية” بدون طيار، أسفرت عن استشهاد 6 مقاومين، تبعها سلسلة عمليات قتل وتدمير وتفتيش للمنازل واعتقالات بالجملة، إلى أن وصلت حصيلة الشهداء 11 شهيدًا، وعشرات المصابين والمعتقلين، قبل أن تنسحب من المدينة مخلفة دمارًا واسعًا، وحالة من الرعب لدى المواطنين وعائلاتهم.
لم يمض يوم واحد على انتهاء العملية العسكرية في جنين، حتى نفذت قوات الاحتلال صباح الجمعة 15 ديسمبر/كانون الأول محاولة اغتيال فاشلة لثلاثة من المقاومين في مدينة نابلس، بعد أن أطلقت طائرةٌ مسيرة صواريخَها باتجاه مركبة كانوا يستقلونها، ولاحقتهم حتى داخل أزقة وشوارع مخيم بلاطة للاجئين، لكنهم تمكنوا من النجاة بأعجوبة.
اقتحمت عشرات الآليات “الإسرائيلية” مع ساعات ليل الأحد16 ديسمبر/كانون الأول، برفقة الجرافات مدينة طولكرم، ونفذت عملية عسكرية واسعة فيها وفي مخيماتها، مستخدمة ذات المنهجية والسلوك الذي استخدمته في جنين، حيث نفذت عمليات قصف بالطائرات المسيرة لعدد من الأماكن أدت إلى ارتقاء عدد من الشهداء والجرحى، وتجريف للبنى التحتية في المدينة ومخيماتها.
ما تزال وسط هذا الاستهداف عمليات الإغلاق التي يفرضها الاحتلال على الضفة الغربية قائمة، حيث تسبب الحواجز العسكرية على مداخل ومخارج المدن صعوبات في حركة المواطنين، من خلال الفحص الأمني لهوياتهم، وتفتيش المركبات خلال مرورها بتلك الحواجز العسكرية التي تحولت إلى حواجز ثابته، تعيد للأذهان مشاهد الحواجز التي أقامها الاحتلال خلال عملية السور الواقي عام2002 في الانتفاضة الثانية، إذ إنّ عام 2023 هو “الأكثر دموية” في الضفة بعد انتهاء الانتفاضة الثانية عام 2005 وفق وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”، حيث ارتفع عدد الشهداء في الضفة منذ 7 اكتوبر/تشرين الأول ليصل أكثر من 300 شهيدًا، فيما اعتُقل ما يزيد عن 4500 فلسطيني وفقًا لتقارير نادي الأسير الفلسطيني.
تصاعدية التهديدات للسلطة:
تتصاعد المواقف السياسية من قادة الاحتلال بشكل مواز للعمل العسكري في الضفة، وفي مقدمتهم “نتنياهو”، للتحذير من مواجهة محتملة مع السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية، فقد نشرت وسائل إعلام “إسرائيلية” تصريحات له أمام لجنة الخارجية والأمن في “الكنيست”، يقول فيها بأنّ “إسرائيل” جاهزة لسيناريو الحرب مع السلطة الفلسطينية، وقلب فوهات البنادق وتوجهها نحو قوات السلطة.
لم يقف الأمر عند هذه التصريحات، بل سبقتها مجموعة مواقف وتصريحات “إسرائيلية”، فمنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، انتقد “نتنياهو” اتفاقيات أوسلو “التي أعادت الفلسطينيين إلى قلب دولة “إسرائيل”، وذهب إلى أبعد من ذلك، بقوله إنّ السلطة الفلسطينية “لا تحارب الإرهاب، بل تدعمه، لا تربي من أجل السلام، بل تربي على القضاء على إسرائيل”.
تصاعدت سردية التحريض التي ركز عليها الإعلام العبري ضد السلطة الفلسطينية في الأسابيع الأخيرة، والتي تتوافق مع خطاب “نتنياهو”، فقد نشرت صحيفة “إسرائيل اليوم اليمينية”، المقرّبة من “نتنياهو”، تحت عنوان: “هكذا تتدرب كتائب السلطة للمواجهة”، واستعرضت خلال تقريرها العديد من المواقف للسلطة، من بينها استمرار دفع رواتب الشهداء والأسرى، كما تحدثت عن العلاقة الوثيقة بين عناصر الأجهزة الأمنية ونشطاء حركة فتح، مستذكرة عدد من العمليات للمقاومة قتل فيها مستوطنون، نفذها عناصر من فتح وعناصر من الأجهزة الأمنية الفلسطينية في السابق.
مرحلة جديدة وهدف واحد:
يتضح من خلال قراءة في السلوك “الإسرائيلي” على الصعيدين السياسي والميداني، أنّ الاحتلال وبانسجام أمريكي معلن في أوقات، وخفي في أوقات أخرى، يؤسسان لمرحلة جديدة لإعادة تعريف العلاقة مع القضية الفلسطينية من المنظور السياسي في شكل النظام السياسي المقبل، في محاولة للهروب أو لتخفيف التبعات التي قد تترب عليها نتائج معركة طوفان الأقصى في بعديها الميداني المرحلي والاستراتيجي، وذلك لتقليل ملامح الخسارة المتوقعة “إسرائيليًا” وأمريكيا إذا ما استطاعت المقاومة فرض شروطها النهائية.
يمكن أن نقرأ ملامح هذا التوجه من خلال مواقف عدة تتمثل في:
- تركيز العمليات العسكرية في الضفة الغربية، على غرار عملية السور الواقي عام 2002، دون أن يُعلَنَ عن ذلك “إسرائيليًا”، حتى لا تقع تحت الضغط السياسي الدولي من جانب، ومن جانب آخر عدم استثارة الشارع الفلسطيني للمواجهة، وإظهار ذلك على أنه سلوك اعتيادي ضمن محاولات تقليل فرص التصعيد الموازي للحرب في غزة، فالعمليات العسكرية شبه اليومية في الضفة وبالذات في نابلس وطولكرم وجنين، تعكس بقوتها وتشابه اسلوب تنفيذها الاجتياحات التي نفذها الاحتلال في السور الواقي، كما أنّ تقطيع أواصل الضفة بالحواجز هو ذات الاستراتيجية التي اتُبعت بشكل مواز في السابق.
- يسعى “نتنياهو” إلى حماية حاضنته اليمنية والدعم الذي يحظى به داخل القاعدة اليمينية في الشارع “الإسرائيلي”، وهي ذات القاعدة التي يراهن عليها لمرحلة ما بعد الحرب، إذ إن جميع المؤشرات تدفع باتجاه الخسارة “الإسرائيلية” في الحرب، وهو ما يعني أنّ مستقبل “نتنياهو” السياسي سيكون على المقصلة، لكن تحقيق رغبات الشارع اليميني وممثليه في الحكومة يمكن أن يساعده في المنافسة مرة أخرى للبقاء في الحلبة السياسية في أيّ انتخابات مقبلة، وهذا ما يفسر منح “بن غفير” و”سموتريش” مساحة لتمرير رغباتهم في تسليح المستوطنين، إلى جانب اعتماد الميزانية المخصصة للاستيطان في الضفة.
- هجوم “نتنياهو” على اتفاقيات أوسلو، إذ لم يكن مخصصًا لذات الاتفاقيات التي منحت الاحتلال مساحة أكبر لتغيير الواقع الفلسطيني على الأرض لصالح المشروع الاستيطاني، وإنما يحاول البروز بحالة أكثر تشددًا من القيادات السابقة ل”إسرائيل”، وهي حالة اعتزاز بالنفس يحاول دائما تقديمها عند حديثة عن أنه الشخصية الوحيدة التي تستطيع أن تمنح “الإسرائيليين” دولة يهودية، في المقابل عدم السماح بمنح الفلسطينيين دولة خاصة بهم.
- يحاول “نتنياهو” المناورة في ساحة الضفة هروبًا من الاخفاقات العسكرية في غزة وفقًا للمؤشرات الميدانية في الحرب، من خلال تقديم انجازات في عمليات القتل والتدمير التي تجري بشكل ممنهج ومتصاعد، وهو ما يعني توسيع قاعدة الأهداف لخفض مستوى الاخفاقات في المستقبل.
- يشير ما نشرته صحيفة “صنداي تلغراف” عن مصادر أمريكية مطّلعة في البيت الأبيض حول أنّ الرئيس الفلسطيني محمود عباس غير قادر على قيادة السلطة، وأنّ كبار المسؤولين الأمريكيين أمضوا أسابيع في صياغة مقترحات لكيفية إدارة غزة، وتقاطع ذلك مع أطروحات “نتنياهو” الأخيرة بعدم السماح لفتح أو حماس أو السلطة بإدارة قطاع غزة، إلى أنّ هناك محاولة إسرائيلية أمريكية لتقديم رؤية جديدة لإدارة الحالة السياسية الفلسطينية والواقع الفلسطيني، على غرار ما قام به “شارون” عقب عملية السور الواقي عام2002، والتي قام خلالها بتدمير البنية المؤسسية للسلطة الفلسطينية في الضفة، وإزاحة الرئيس الراحل ياسر عرفات عن مشهد التأثير السياسي، بهدف صعود تيار سياسي فلسطيني يمكن أن يقبل بأطروحات مقابل تنازل أكبر.
الخلاصة:
ما تزال تأثيرات السابع من أكتوبر/تشرين الأول تلقي بظلالها على الاحتلال “الإسرائيلي” بكافة مستوياته، وامتداد ذلك للولايات المتحدة الأمريكية، التي تدرك بشكل كبير أن خسارة الحرب أمام المقاومة ستعمل على تغيير المنظور من دولة الاحتلال، الأمر الذي يجعل صانعي القرار السياسي الإسرائيلي والأمريكي أمام تحديات لوضع أطروحات يمكن من خلالها محاولة تخفيف أية تأثيرات محتملة للحرب بعد انتهائها، إذ إن عدم القدرة “الإسرائيلية” على تحقيق الأهداف ضد المقاومة بغزة سيغير من قواعد الاشتباك على الامتداد الفلسطيني كاملًا، بما فيه الضفة، ويمكن أن يعمل على اهتزاز الحالة السياسية داخل “إسرائيل” نفسها، التي قد تؤثر على خارطة الحكم المستقبلية، وهو ما يريده “نتنياهو” بشكل أساس، ومعه القاعدة اليمينية المتطرفة وأحزابها، مما يعني أنّ جل التفكير “الإسرائيلي” الآن هو محاولة البحث عن إنجازات تُسجَل على شكل نقاط لما ستخرج به الحرب، وتُسجَل لهم في ميزان التقييم المستقبلي، والفرصة الأكثر قدرة على المناورة من خلالها هي ساحة الضفة الغربية.
[1] – باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، رام الله