هل ينجح الاحتلال في عملية تغيير الوعي بتطبيق “عقيدة الصدمة” على الشعب الفلسطيني؟

تكررت تصريحات مسؤولين عدة وباحثين “إسرائيليين” وغربيين قائلة إنّ حركة حماس فكرة وأيديولوجيا مغروسة في الوعي الفلسطيني، ولذلك يصعب القضاء عليها، ومن هذه التصريحات ما جاء على لسان “بني غانتس” رئيس حزب “همحنيه همملختي” قبل انضمامه لحكومة الحرب، حيث قال: “من غير الممكن القضاء على حماس، لأنها فكرة أيديولوجية، وإنما يجب ضربها وإضعافها بصورة لا تتعافى منها”، وقد كرر ذات المقولة رئيس الوزراء “الإسرائيلي” الأسبق “إيهود باراك” واصفًا حماس بأنها: “أيديولوجية، وهي موجودة في أحلام الناس وفي قلوبهم وفي عقولهم”.

وردت تصريحات مماثلة قيلت على ألسنة بعض المسؤولين العرب والفلسطينيين، مثل وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي الذي قال:”لا يمكننا فهم كيف يمكن أن تحقق “إسرائيل” هدفها بتدمير حركة حماس، حماس فكرة ولا يمكن القضاء على الأفكار بقوة السلاح”، إلّا أنّ هناك فرقّا شاسعّا في معنى هذه التصريحات والتصريحات السابقة، فبينما تحيل التصريحات العربية إلى أنّ حماس تعبّر عن فكرة التحرر من الاحتلال وحق تقرير المصير، فإنّ تصريحات المسؤولين الصهاينة ومن شايعهم تحيل إلى أمر آخر تمامًا، وتنطلق من قاعدة أنّ حماس “حركة إرهابية” ذات أيديولوجية دينية متطرفة تهدف إلى إبادة اليهود، وهذه الأيديولوجية متغلغلة في العقل الجمعي الفلسطيني، ومن ذلك مقال منشور على موقع “ميدا” العبري ذي التوجهات اليمينية المتطرفة، بعنوان “حماس هي عرضٌ لمرض فلسطيني“، ويردُ فيه أنّ الفلسطينيين هم من يمكّنون حماس من الوجود، وهي تتمتع بتأييد في المناطق الفلسطينية بسبب أنها تمثل الهدف الديني المتطرف، وهو إقامة دولة إسلامية تقتلع “إسرائيل”.

يثير التكرار الصهيوني لهذا الموضوع تساؤلًا حول المغزى من طرحه، وما يستتبعه من أدوات للتخلص لا من حركة حماس كتنظيم سياسي وعسكري فقط، وإنما من فكرة حماس أيضًا، حيث بات جليًا أنّ دولة الاحتلال تهدف إلى إحداث تغيير في الوعي الفلسطيني يهدف إلى التخلص من فكرة حماس، كما يراها قادة الاحتلال، ومن المهم التوضيح أنّ هدف “تغيير الوعي”، أو إعادة تشكيله، يختلف جوهريًا عن هدف “كي الوعي” الذي دأب قادة الاحتلال على الانطلاق منه في التعامل مع الشعب الفلسطيني، فعملية “كي الوعي” هي عملية تهدف إلى تحقيق الردع في الأساس، من خلال إقناع الفلسطينيين بعدم جدوى مقاومة المشروع الصهيوني؛ لإدراكهم استحالة التغلب عليه أو خوفهم من التبعات الكارثية للمقاومة التي ستحدثها آلة القتل والدمار الصهيونية، غير أن ذلك لا ينطوي على هدف نزع الأفكار التأسيسية للواقع من عقول الفلسطينيين، فها هو “بوغي يعلون” أحد منظري مبدأ “كي الوعي”، يقول في كتابه “طريق طويلة قصيرة” في معرض حديثه عن عملية “السور الواقي” خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، “يجب أن ينتهي الصراع، وقد فهم الفلسطينيون أنّ العنف لا يجدي نفعاً”، أمّا مبدأ إعادة تشكيل الوعي؛ فالمراد منه هو تنازل الفلسطينيين عن ثوابتهم وجعلهم قابلين للموافقة على أيّة مخططات يطرحها الاحتلال عليهم.

وعليه، فالسؤال المطروح هو كيف يمكن للاحتلال إحداث هذا الانتقال إلى إعادة تشكيل الوعي الفلسطيني؟ وهل ينجح فيه؟ ولماذا تفشل هذه السياسة مع الشعب الفلسطيني؟

عقيدة الصدمة:

تناقش “نعومي كلاين” في كتابها “عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوراث” كيف استُخدمت الصدمات التي تخلقها الكوارث الطبيعية والحروب والانقلابات الدامية من أجل إحداث تغييرات لم يكن بالإمكان إحداثها لولا هذه الصدمات، ومع أنها تركز نقاشها على استخدام عقيدة الصدمة لإحداث تحولات اقتصادية نيوليبرالية في مجتمعات ودول تتبنى النهج الاشتراكي في الاقتصاد، إلّا أنّه يمكن دراسة حالات أخرى، كحالة العدوان الصهيوني الحالي على الشعب الفلسطيني، من خلال عقيدة الصدمة.

تُستمد هذه العقيدة من أبحاث وتجارب في مجال العلاج النفسي، وتهدف إلى إعادة تشيكل وعي المرضى النفسيين بالصدمات والتعذيب بدلًا من علاج أمراضهم، وقد كانت هذه التجارب تجري بتمويل ودعم من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية؛ بهدف استخدام نتائجها في استجواب المعتقلين ودفعهم إلى الاعتراف.

 تقول “كلاين”: “هكذا يعمل مذهب الصدمة، تضع الكارثة الأصلية – سواء أكانت انقلابًا أو هجومًا إرهابيًا، أو انهيارا للسوق أو حربًا، أو تسونامي، أو إعصارًا – جميع السكان في حالة من الصدمة الجماعية، وتستخدم القنابل المتساقطة والعنف المتفجر والرياح العاتية كلها؛ لتطويع مجمل المجتمعات… وتقوم المجتمعات المصدومة بالتنازل عن أمور كانت قد دافعت عنها بشراسة في ظروف مغايرة”.[2]

تساهم الأهوال التي يمر بها من يتعرضون للصدمة، وفق منظِّري عقيدة أو نظرية الصدمة، في خلق حالة من التيه وفقدان الإحساس بالزمان والمكان وغياب الذاكرة، وانهيارهم كليًا، لدرجة فقدان القدرة على التفكير أو فعل أي شيء، وفي هذه الحالة يصبح الناس وكأنهم وُلدوا من جديد، أو بتعبير آخر “صفحات بيضاء”، مفرغة من أيّة أفكار أو معتقدات أو ذاكرة سابقة، وعند تحقق هذه اللحظة تبدأ عملية البناء من جديد، وإعادة كتابة ما يُراد على هذه الصفحات لخلق وعي وذاكرة جديدة، وبطبيعة الحال يُعرّض المصدومون لسيل هائل من الرسائل والأفكار لزرعها في عقولهم، ويُعزَلون عزلًا تامًا عن المحيط الخارجي حتى يفقدوا إدراك ما يدور حولهم، حيث كانت وكالة الاستخبارات الأمريكية تُعرّض المعتقلين لتسجيلات مسموعة طوال اليوم كجزء من عملية إعادة تشكيل وعيهم، وهذا “أوغستو بينوتشي” قائد الانقلاب في تشيلي عام 1973، وهي الدولة التي كانت المختبر الأول لتطبيق نظرية الصدمة، يقول عن مهمته بعد تحقيق انقلابه الدموي إنها: “عملية طويلة معقدة تهدف إلى تغيير الذهنية التشيلية”.[3]

لم تكن تشيلي هي الحالة الوحيدة التي طُبقت فيها عقيدة الصدمة، فقد شملت عدة دول من أمريكا اللاتينية، من بينها الأرجنتين، وكان هناك سعي حثيث لاجتثاث روح “التضامن” من شعوب تلك الدول التي يوصف التضامن فيها بأنه “لاهوتها المقدس”، حيث كان المعتقلون في سجون الانقلابات يُعرَّضون لأقسى أنواع التعذيب لإجبارهم على خيانة أقرانهم وتقوقعهم حول ذاتهم لهدم روح التضامن في أنفسهم، وفي كثير من الحالات كان المعتقلون يُقتلون لاعتبارهم في مرحلة متقدمة من المرض (المقصود أفكارهم ووعيهم) لا يمكن شفاؤها.[4]

لم تكن حوادث القتل والاعتقالات بالجملة على يد أنظمة الانقلابات مجرد أحداث عشوائية، وإنما كان لها أهداف لخلق صدمة عامة في المجتمع، وأيضًا التخلص مما سُمي “الآفات” التي تعارض وتقاوم أو قد تعارض مستقبلًا سياسات الأنظمة الانقلابية، إذ تقول “كلاين”: “وكما هو الحال في معظم دول الرعب، خدمت عمليات القتل المستهدف هدفًا مزدوجًا، أزالت أولًا العوائق الفعلية من الطريق: الأشخاص الأكثر استعدادًا للمقاومة، وكان ثانيًا، كل شخص يشهد على اختطاف “المتمردين” يرسل تحذيرًا واضحًا إلى كل من يفكّر في المقاومة، فيساهم في تجنب العوائق في المستقبل”.[5]

إنّ تتبع جرائم الاحتلال ومجازره في قطاع غزة والضفة الغربية وما يرافقها من حملات قصف إعلامي موجه، لا سيما إن قرأت في ظل الحديث الصهيوني المتكرر عن أنّ “حماس فكرة مغروسة في الوعي الفلسطيني”، يشير إلى أنّ الاحتلال يستخدم تقنيات عقيدة الصدمة لإعادة تشكيل الوعي الفلسطيني، ودفع الفلسطينيين للتنازل عن ثوابت لطالما حافظوا عليها وواجهوا سياسات الاحتلال التي تسعى لدفعهم للتنازل عنها.

صدم الشعب الفلسطيني:

يمكن أن تقرأ المجازر الصهيونية بأوجه عديدة، ولكن هذه الأوجه متداخلة ويخدم بعضها بعضًا، فكون الكيان الصهيوني دولة استعمار استيطاني تقوم على فكرة “محو” أو “إزالة” الشعب الأصلاني للبلاد لإحلال المستعمر المستوطن مكانه، تأتي هذه المجازر لتحقيق هذا المحو عبر إبادة ما يمكن من السكان والمجتمع والعمران، وهذه إحدى استراتيجيات المحو المعهود للمشاريع الاستيطانية، ومن ناحية أخرى تُقرأ هذه المجازر على أنها أداة لتحقيق “الترانسفير” الذي هو الاستراتيجية الثانية من استراتيجيات المحو، وهذا ما حدث في النكبة عام 1948[6]، غير أنه إنّ تعذر تحقيق أحد هذين الهدفين، فإنّ لهذه المجازر وظيفة بعيدة المدى تهدف إلى إعادة بناء وعي الشعب الفلسطيني بما يتلاءم مع غايات المشروع الصهيوني الكبرى في التخلص من الوجود الفلسطيني أو إنهاء مقاومته للمشروع الاستيطاني، وهذا التغيير في وعي الشعب يتتطلب تدميره ماديًا ومعنويًا أولًا، ثم إعادة بنائه من جديد.

 يرى البروفيسور الصهيوني “ميخائيل ميلشتاين”، المستشرق الذي شغل منصب مستشار “المنسق” بين عامي 2015 -2018، إن “حماس حكمت القطاع بطريقة دكتاتورية منذ عام 2007، وهي في الواقع متجذرة بعمق في جميع مستويات المجتمع الغزاوي لأكثر من 70 عامًا، حتى عندما كانت تعمل في التشكيل المبكر لجماعة الإخوان المسلمين”، ولذلك فإنّ القضاء على حماس يستلزم “تصفية جميع أُطرها القيادية، والتصفية الواسعة النطاق لكبار مسؤوليها، والتدمير المادي لمؤسساتها، ولا سيما المدنية منها “الدعوة”، والتي تشكل وسيلة الاتصال مع الجمهور، وحرمانها من مصادرها الاقتصادية، واعتقالات جماعية لعشرات الآلاف من نشطائها”.

في ذات الإطار يقول الصحفي الصهيوني “رون بن يشاي” في مقال له حول إمكانية تفكيك حركة حماس، إنّه يمكن القضاء على حركة تحركها فكرة أو أيديولوجيا بالقوة العسكرية، وهذا ما حدث مع النازية وداعش والقاعدة حسب قوله، ولكنّه يوضّح أنّ الضربة العسكرية يجب أن تستهدف كل بنى الحركة بما فيها المدنية، حيث يرى أنّ الحرب يجب أن تفضي إلى القضاء على “المؤسسات المدنية والحكومية ومؤسسات الرعاية الاجتماعية و”الدعوة” التي يشغلها الذراع السياسي والديني لحماس حول المساجد”، غير أنّه يربط نجاح هذا المسار بخلق مسار موازي يستهدف المنظومة التعليمية للمجتمع الفلسطيني لنزع فكرة حماس من المجتمع.

مثله يؤكد ميلشتاين أنّ إحداث التغيير المنشود، بنزع فكرة حماس مع عقول الناس، هو عملية طويلة تتمحور حول شعور الشعب الفلسطيني بخيبة الأمل وتصاعد الغضب ضد فكرة حماس والكارثة التي جلبتها على قطاع غزة، ويضيف أنّ هذا التغير يتركز في مسألة الوعي، وعليه يجب أن تحدث تحولات في مراكز صناعة الوعي الفلسطيني، لا سيما أنظمة التعليم والدين والإعلام.

في هذا السياق، لا تبدو عمليات قصف وهدم المساجد والمؤسسات الحكومية المدنية ومؤسسات المجتمع المدني والجامعات والمؤسسات الإعلامية، التي تمارسها قوات الاحتلال في قطاع غزة، إلّا أداة للقضاء على معاقل وبنى الوعي في قطاع غزة، وفي ذات السياق، لا يبدو مستغربًا حديث رئيس وزراء الاحتلال “بنيامين نتانياهو” المتكرر عن رفضه لتولي سلطة فلسطينية، تعلم أبناءها الإرهاب وكره “إسرائيل”، مسؤولية قطاع غزة.

تأتي المجازر التي فاقت كل التوقعات والتدمير الشامل لقطاع غزة، وتعمّد الاحتلال قتل الأطفال والمدنيين، وفرض الحصار الخانق المميت على قطاع غزة، وسيلةً للعبور من خلالها إلى مرحلة إعادة تشكيل الوعي الفلسطيني، فمن الواضح أنّ أهالي غزة رفضوا التهجير إلى سيناء أو غيرها، وساندوا المقاومة في عملها، سواء في السابع من أكتوبر أو بعده، متسلحين بوعيهم لحقيقة الصراع، ولكن مع هول المجازر والتدمير والخوف من الموت بالقصف أو الجوع أو الخوف من الاعتقال المهين بتعرية المعتقلين ونشر صورهم وملاقاة المصير المجهول، استطاع الاحتلال إحداث اختراق ملحوظ في الوعي الفلسطيني تحت ضربات الطائرات والمدافع، فمنذ بداية العدوان كان يُلاحظ أنّ هناك صمودًا وإصرارًا لدى أهالي غزة على البقاء في مناطق سكناهم، وحركة النزوح كانت تجاه المشافي والمدارس وغيرها، ولكن مع تطور المجازر الصهيونية أصبحت هناك قابلية لدى الناس على النزوح، حتى قبل وصول المعارك إلى جوارهم، فبعد تجدد العدوان مع انتهاء الهدنة أخذ عشرات الآلاف من المواطنين بالنزوح من شمال غزة وخانيونس تجاه رفح في أقصى جنوب القطاع.

الخطوة التالية لحركة النزوح هذه ستكون إلى سيناء بطبيعة الحال، لأنّ جيش الاحتلال بدأ بتنفيذ عملياته البرية في جنوب القطاع، بعيدًا عن إمكانية قبول مصر بفتح حدودها أمام حركة النزوح أم لا، فأعداد كبيرة من المواطنين بدأت بقبول فكرة التهجير، مع أنهم يدركون أنها ستكون طريقًا بلا عودة، وعلى أية حال، فليس من الضروري أن تحدث عملية التهجير خلال الحرب، وإنّما يكفي أن تكون قد تمكنت من التسلل إلى وعي الناس، غير أنّ الاختراق المهم الذي يسعى الاحتلال إلى إحداثه هو خلق شرخ كبير بين المقاومة وحاضنتها، سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية، إذ تترافق عمليات القصف المدفعي مع عمليات قصف إعلامي تستهدف المجتمع الفلسطيني، عبر صفحات متعددة على وسائل التواصل الاجتماعي، مثل صفحة “طريق السلامة”، وغيرها الكثير من الصفحات التي تقف خلفها أجهزة مخابرات الاحتلال، وبعضها تعلن صراحة بأنها صفحات تابعة للمخابرات “الإسرائيلية”، وبعضها الآخر تتستر خلف مسميات فلسطينية، وتبث هذه الصفحات منشورات ممولة بشكل دوري تحمل رسائل مفادها أنّ حركة حماس هي من جلبت الدمار لقطاع غزة، وأنّ قادتها يختبئون في الأنفاق أو يقيمون في الفنادق في قطر، بينما يُقتل الناس وتُدمر بيوتهم.

لم تقف حدود الصدمة عند قطاع غزة، وإنّما تتعدى إلى الضفة الغربية والداخل المحتل أيضًا، فالأزمات الاقتصادية هي نوع من الصدمات التي يتعرض لها المجتمع أيضًا، وهذا ما يحدث في الضفة الغربية وما يترافق معه من حملات اعتقالات وعنف مفرط.

هل تنجح عقيدة الصدمة؟

كان الحدث الأبرز الذي حاول الاحتلال من خلاله إظهار أنّ صدمته للمجتمع الفلسطيني قد آتت أكلها، لا سيما في الضفة الغربية، هو حدث الإفراج عن الأسيرات والأسرى الأشبال ضمن صفقة التبادل مع المقاومة الفلسطينية، إذ يبدو أنّ الاحتلال كان يظن أنّ الضفة الغربية حُيِّدت مع تراجع الاحتجاجات الشعبية والمسيرات التضامنية، ومع ذلك حاول فرض شروط قاسية على أهالي الأسيرات والأسرى لمنع أيّ مظهر من مظاهر الاستقبال، تمثلت بمنع الأسرى أو أقاربهم من الظهور على الإعلام أو إجراء أيّة مقابلات صحفية، ومنع الاحتفال بكافة مظاهره وفرض غرامة بـ 70 ألف شيكل على من يخالف هذه الشروط.

لكن ما أن أُعلِن بدء تنفيذ الصفقة حتى بدأ الأهالي وجموع الفلسطينيين بالتوافد إلى بوابة معسكر “عوفر”، الذي سيخرج منه الأسرى، رافعين رايات فصائل المقاومة، لا سيما حركة حماس، ومرددين هتافات داعمة لغزة وللمقاومة، وخرج الأسرى هاتفين للمقاومة ورافعين لراياتها أيضًا، وكاسرين لقرار الاحتلال بمنع الظهور على الإعلام، إذ لم يكتفِ الأسرى بالظهور على الإعلام، وإنما أدلوا بتصريحات داعمة للمقاومة ومؤيدة لها، ما دفع قوات الاحتلال إلى تنفيذ اقتحامات على مدار أيام تحرير الأسرى لبلدة بيتونيا التي يقام على أراضيها معتقل عوفر، ومهاجمة الأهالي والشبان لساعات طويلة، غير إنها لم تستطع أيضًا منع الناس والأهالي من التجمع لاستقبال الأسرى، كما تحولت اقتحامات قوات الاحتلال لساحة مواجهة مع الشبان الفلسطينيين الذين كانوا يأتون خصيصًا لهذا الغرض.

يحمل هذا الحدث رمزية كبيرة، ولعله مثّل انهيار لعقيدة الصدمة التي سعى الاحتلال لتطبيقها في الضفة الغربية، وهو ما دعا أحد صحافيي الاحتلال القول، عقب هذه الأحداث، إنّ:”9 أطفال في الضفة الغربية من بين كل 10 مثلهم الأعلى أبو عبيدة أو محمد الضيف”.

أمّا في قطاع غزة؛ فمع أنّ وقع الصدمة أشدّ وأقسى، وقد تمكن الاحتلال من التأثير على عدد كبير من أبناء القطاع، وهو أمر ملاحظ على وسائل التواصل الاجتماعي مما يرشح من أصوات لأناس فقدوا ذويهم وهُدّمت بيوتهم وآل بهم الحال ليصبحوا في عداد المشردين الفاقدين لأدنى مقومات الحياة، فوجهوا انتقادات لحركة حماس على “توريطهم في هذه الحرب”، وهي أقوال تلقفها الاحتلال وأعاد نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي الموجه للجمهور الفلسطيني، ومع ذلك، أتت مشاهد تسليم الأسرى “الإسرائيليين” التي بثتها المقاومة الفلسطينية، التي حوت مشاهد لتجمهر الشبان والأهالي لحظة التسليم هاتفين للمقاومة ومساندين لها، ومنها مشاهد لشبان يقبلون رؤوس المقاومين؛ لتثبت أنّ عقيدة الصدمة لم تكن فعّالة كما أراد الاحتلال.   

السؤال المطروح هنا: لماذا لم تنجح عقيدة الصدمة ولن تنجح مستقبلًا في تغيير وعي الشعب الفلسطيني؟ إذ لا يبدو أنّ الاحتلال قد تمكن فعليًا من الانتقال من مفهوم “كي الوعي” ذي الطابع الردعي إلى تغيير الوعي الحاسم، فمع كل المجازر الصهيونية وحملات القمع والترهيب لم يستطع الاحتلال خلق شرخ كبير بين المقاومة وحاضنتها لدرجة تخلي الشعب الفلسطيني عن تطلعاته وحقوقه، ولعلّ هذا الأمر يبدو بشكل جلي في الضفة الغربية التي هي الساحة الأساسية للاحتلال بعد غزة، وعلاوة على ذلك، فما زال قادة الاحتلال يتحدثون عن الردع المعتمد على مفهوم “كي الوعي” بالنسبة لحزب الله، إذ قال رئيس وزراء الاحتلال “بنيامين نتانياهو” في 2 ديسمبر/كانون الثاني: “نحن نستمر في اتباع السياسة المرتبة التي حددناها والتي مفادها الردع القوي في الشمال والحسم الواضح في الجنوب”، وأضاف: “لا نجلس مكتوفي الأيدي إزاء الاعتداءات علينا، بل نرد الصاع صاعين… وإذا ارتكب حزب الله حماقة ودخل في حرب واسعة النطاق فسيخرب لبنان بيديه”.

من اللافت للانتباه هو أنّ هذه التصريحات أتت بعد قرابة شهرين من العدوان، ولم تخرج بتاتًا عن المعادلة والمفاهيم التي كانت سائدة قبل العدوان، وهي ذاتها المفاهيم التي ثبت للاحتلال أنها غير فعّالة، فمسألة التدمير الممنهج هي استراتيجية كان الاحتلال قد اتبعها في حرب تموز 2006 مع حزب الله، وخرج منها بما يسميه “نهج الضاحية” التدميري الهادف لتحقيق الردع، وعمل على تطبيقه في قطاع غزة خلال عدواناته عليه، لا سيما في عدوان 2014، وقد أثبتت عملية “طوفان الأقصى” أنّ هذا النهج لن يحقق الردع أو يساهم في “كي وعي” الفلسطينيين، غير أنّ العنصر الجوهري في فشل عقيدة الصدمة مع الشعب الفلسطيني هو المفهوم الخاطئ لدى الاحتلال حول معنى “فكرة حماس”، فكما بيّنا في المقدمة أنّ الاحتلال يرى أنّ حماس تمثل تيارًا أيديولوجيًا ساعيًا لقتل اليهود فقط لا غير، في حين أنّ الواقع مغاير تمامًا لهذا المفهوم، فحماس والمقاومة بشكل عام مغروسة في عقول الناس، لأنها تمثل مفهوم التحرر من الاحتلال، وما دام الاحتلال موجودًا فستظل هذه الفكرة موجودة، فضلًا عن أنها باتت الرادع للاحتلال وإن اختلّت موزاين القوى، والتي يشعر بذاته من خلال أفعالها، فحتى لو زالت حماس وغيرها من حركات المقاومة، فوجود الاحتلال سيعيد إنتاج حركات مقاومة جديدة تخرج من رحم الظلم والقهر الذي يفرضه الاحتلال على الشعب الفلسطيني.

لذا فإن عقيدة الشعب الفلسطيني وإيمانه أقوى من عقيدة الصدمة التي ينجح تطبيقها في مجتمعات أخرى لم تألف ممارسات احتلال منذ عشرات السنوات وصبر عليها، وفي كل جيل فلسطيني جديد يكون أكثر صلابة وتمسكا بحقه ومقاومًا للاحتلال.

خاتمة:

في حين يسعى الاحتلال لإعادة تشكيل وعي الشعب الفلسطيني لجعله قابلًا لمخططاته، سواء أكانت تهجيرًا أم محوًا ثقافيًا وسياسيًا، من خلال المجازر والدمار غير المسبوق، فإنّ هناك تجارب كثيرة أثبتت أنّ هذا القدر من العنف يأتي بنتائج عكسية تمامًا، إذ إنها تحفّز الناس على الانتقام والثأر وترسّخ ضرورة التخلص من الاحتلال حتى يظل الشعب الفلسطيني معرضًا لخطر هذه المجازر.

مع ذلك، لا بد من أن تُجابه محاولات الاحتلال لتغيير الوعي الفلسطيني بمساعٍ حثيثة لتعزيز الوعي وترسيخه ومواجهة روايته الموجهة للشعب الفلسطيني بأنّ المقاومة هي من جلبت الدمار والموت لقطاع غزة، فإهمال هذا الجانب من شأنه أن يترك المجال مفتوحًا لدعاية الاحتلال، في الوقت الذي يعاني فيه الشعب الفلسطيني من هشاشة نفسية بفعل المجازر والحصار والدمار سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية.


[1] – باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، رام الله

[2] نعومي كلاين، عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث، مترجم (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2011)  ص 31.

[3] المصدر السابق، ص 155.

[4] المصدر السابق، ص 169.

[5]المصدر السابق، ص 164.

[6] ينظر: حباس، وليد. مفهوم الاستعمار الاستيطاني : نحو إطار نظري جديد. قضايا إسرائيلية مج. 17، ع. 66 (تموز 2017)، ص ص. 114-127.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى